مقالة الاستاذ المساعد الدكتور معن عبود علي نسبية الفقر والندرة النسبية


ثمة سؤال جدلي يُطرح في كل مرة يدور الحديث فيها حول مصارف الضرائب الاسلامية المتمثلة بالزكاة والصدقات والخمس وغيرها، وعلى الرغم من انّ هذا السؤال لا يتسم بالواقعية، الا انني تعرضت شخصيا لهذا السؤال من قبل الكثيرين. فالجدل احدى الخصال الاصيلة في الانسان قال تعالى : ((وكان الانسان اكثر شيء جدلا)) . والسؤال باختصار كيف نتصدق على الفقير اذا كان الجميع اغنياء؟ واذا كان الفقهاء يتوافرون على عدة اجابات، فما هو الجواب الاقتصادي لهذا السؤال؟
لقد درج الاقتصاديون على استخدام مصطلح الندرة للاشارة الى محدودية الموارد يقابلها احتياجات الانسان المتعددة والمتنوعة وغير المحدودة، فماهي الندرة التي يُعرّف من خلالها علم الاقتصاد بشكل اجمالي؟ الندرة هي انك لا تستطيع الحصول على كل ما تريده في آنٍ واحد، وانك مضطر الى ان تختاّر جزء من احتياجاتك وتضحي بالجزء الاخر. فاذا حصلت على دخل نقدي قدره عشرة ملايين دينارا في هذه السنة، وقد انفقت منها مليوني دينار على رحلة سياحية، فان هذا سيعني ان عليك ان تخفض انفاقك بمقدار مليوني دينار على المنتجات الاخرى، أو انك ستضطر الى تخفيض مليوني دينار من مدخراتك السنوية. وهذه الندرة لا تنطبق على الاموال والموارد الاخرى فقط كالارض ومواردها الطبيعية من معادن وماء وغاز في باطن الارض بل حتى كل ما موجود في الغلاف الجوي، والعمل المتمثل بالجهد البدني والفكري ورأس المال حسب التعريف الاقتصادي الذي يشمل الموجودات المخزونة من المعدات والالات والابنية والانشاءات، اي كل شيء مادي يستخدم في انتاج سلعة او تقديم خدمة. بل تتعدى الندرة كل ذلك لتشمل الوقت، الذي يعد فلسفيا اثمن ما يملكه الانسان، فعندما تكتب مقالا اقتصاديا يوضح العلاقة بين الندرة والفقر، فانك ستضحي بهذا الوقت الذي كان من الممكن ان تستخدمه في اللعب مع اطفالك او الاستماع الى الموسيقى او المشي في طقس جميل.
وفي هذا الصدد يرى الاقتصاديون اننا دائما وابدا نتعايش مع الندرة، ففي كل افعالنا وتروكنا هناك مبادلة بين ما نختاره وما نتركه، فربما طالبنا الحكومة بتوزيع منح طارئة على الفقراء، ولكننا حينها سنتخلى اكيدا عن بناء مستشفى او مدرسة او انشاء جسر او فتح طريق جديدة، – بالتأكيد هذا المثال يفترض تحييد الفساد -.
اما الفقر فهو عدم امتلاك الفرد او الاسرة الاحتياجات الاساسية او عدم امكانية تلبية هذه الاحتياجات، فالطعام حاجة اساسية والمسكن حاجة اساسية والملبس حاجة اساسية، فهل لو تمت تلبية هذه الحاجات فانه تم القضاء على الفقر؟ الاجابة ستكون نعم بكل تأكيد، وهذا هو الجواب الواقعي بعيدا عن الجدل. ولكن قررنا منذ البدء ان سؤالنا جدلي وانه لا وجود للفقير، ومسايرة للجدلية لنسأل عن الطعام الذي قدم للفقير، هل يتصف بسد الاحتياجات الغذائية الصحية، وتنطبق عليه معايير الامن الغذائي؟ وهكذا المسكن، فهل تم تأمين مسكن يتصف بالدرجة اللازمة للمحافظة على صحة ساكنيه من جهة التبريد والتدفئة والتهوية والصرف الصحي وما الى ذلك. وهذا ينطبق على جميع الحاجات الاساسية.
ونستنتج من كل هذا ان سقف الحاجات الاساسية سيرتفع مع ارتفاع مستوى المعيشة للمواطنين الذين يعيش بينهم الفقير، وما يتصل به من رفاه اقتصادي. ولان قانون الندرة يحتم دوما وابدا على الانسان ان يضحي بشيء للحصول على شيء اخر فاننا سنجد فئة معينة من البشر في ظل مجتمع معين غير قادرين على تلبية بعض الاحتياجات التي تقرر انها اساسية في هذا المجتمع، ومن ثم فهم يتصفون بانهم فقراء في هذا المجتمع على الرغم من انهم يتصفون بانهم اغنياء في مجتمع اخر.
وهنا تَشخُص اهمية العالمية، او العولمة، التي باتت شمسها بالافول، لا على المعايير التي تقررت في العقود السابقة، بل على معايير انسانية جديدة، ترى ان كل البشر عليهم ان يحصلوا على الفرص نفسها، بل من المهم اخلاقيا ان تكون الحاجات الاساسية واحدة لكل البشر.
اخيرا، نرى انه لا مجال لانكار فكرة الندرة التي يستند عليها تعريف علم الاقتصاد، اولا، وانه لا مجال لإنكار وجود الفقير في كل زمان ومكان، ما يعني ان لكل صدقة مصرف مهما ازداد الرفاه الاقتصادي للمجتمع.